مؤسسة العيون الثقافية

موقع ثقافي يعنى بالادب بكل انوعه على انه رسالة سلام ولغة توحد العالم

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

شكرا لكرم مروركم

موت ضمائر/ماهر اللطيف

 موت ضمائر


بقلم :ماهر اللطيف


خرجت في يوم العطلة الأسبوعي إلى الشارع الرئيس بعد عبور تلك الأزقة والأنهج (الطرق الواضحة) الضيقة من منزلي إلى "مقهى وَسَط المدينة" الفاخر، أين سألتقي برفاقي، وزملاء الدراسة والعمل بعد طول انتظار في هذا اليوم البارد، وكانت الساعة تشير إلى منتصف النهار.


وما إن ألقيت نظري بعيدًا في اتجاه هذا المكان الرمز - أفخم  وأقدم مكان في المدينة - حتى رأيت تفرق مجموعة من الناس وذهاب كل فرد منهم إلى وجهة يقصدها، وكانت الساحة تعج بالزوار والرواد من كافة الأعمار و الأجناس.


فتقدمت ببطء نحو المقهى حين لمحت عجوزًا تحوقل، تستغفر، تنطق الشهادتين، تقول "يا لطيف ألطف .... يا رحيم ارحمنا... يا عفو اعف عنا..." ، وهي تتصبب عرقا، تسترق الأنفاس، وقد جف ريقها، تبسط يديها للمارين ليعينوها على الوصول إلى كرسي من كراسي الساحة واسترجاع أنفاسها والاستراحة قليلًا.


لكن المارة - أغلبهم للأسف - لم يستجيبوا لطلبها وتجاهلوها، بل إن بعضهم تمتم، استشاطوا غضبا، توجهوا لها بكلام في غير محله، واحتقرها البعض الآخر وزمجروا، دفعوها،...، مما جعلني أسرع لإنقاذ الموقف وأمد  يد المساعدة إلى هذه العجوز التي تذكرني بجدتي التي كانت مثلها - حسبما أتذكر، فقد ماتت ولم أبلغ عشر سنوات - لا تقدر على المشي والتنقل من مكان لآخر، فكانت تعتمد على الغير لمساعدتها عندما تكون وحيدة، وكان الجميع يلهثون، يجرون، يتسابقون مع الآخرين لكسب الحسنات ونيل مرضاة الله.


مسكتها من يدها بيد، و ظهرها بيدي الثانية إلى أن بلغنا المَقْعَد العمومي القريب، ساعدتها على الجلوس وهي لا تزال تذكر الله دون انقطاع، مسحت عرق جبينها بكف يدي اليمنى، كفكفت دموعها، قبّلت يدها وطلبت منها أن تنتظرني لحظة، فاقتنيت لها قارورة ماء معدني وعلبة عصير، مناديل لتمسح بها عرقها، فشكرتني ودعت لي دعوات جِدّ جميلة - لا أعتقد أنني سأنساها ما حييت - مثل "يسقيك الله من نهر الكوثر "و "بارك الله فيك وفي والديك اللذين ربياك أحسن تربية" و "جعله الله في ميزان حسناتك يا رب العالمين"....


منها، استفسرت عن سبب هذه الوضعية، وهذه الحالة، تجاهلت رغبتي في البداية، ترددت (حين كررت طلبي وأصررت عليه)، ثم قالت وهي تتنهد وتقول" يا ستار استرنا، يا غفور اغفر لنا، ... ":


- ماذا أقول، وماذا أترك بني (تبتلع ريقها وتروي فمها بقطرات من الماء) الله لا يذيقك ما ذقت، ولا يُريك ما رأيت


- (مقاطعًا، مقهقها، ساخرًا) لا تعيدي سرد تلك الحكاية التي كنا نسمعها عن اليهود الذين كانوا يعيشون معنا منذ عقود


- (ابتسمت على الرغْم من الألم، مسكتني من يدي، أشارت علي بالجلوس بجانبها) حين كانوا يفتحون محلاتهم باكرا، يتجرعون بعض ملاعق من العسل الأصيل، يتفقدون خزاناتهم ويتجسسون ويعدون أموالهم المخزنة هناك وهي كثيرة جدا، ثم يجلسون أمام محلاتهم في انتظار قدوم الزبائن، وما إن يسأله مسلم عن سبب شروده الذهني يجيبه بعد تنهده "الله لا يذيقك ما ذقت، ولا يُريك ما رأيت"، فيقول المسلمين "آمين"؟ (فابتسمت، و أومأت برأسي موافقًا على الحكاية وأنا أبادلها الضحكة)، لا بني، ليس هذا الذي أردت قوله....


وبعد أن استراحت قليلًا، أعلمتني أنها كانت عائدة إلى منزلها المتواجد في آخر هذه الساحة، وكانت تسير خلف رجل كبير يستأنس بعكازه ويعتمد عليه في مشيته، كانت تسمع تأوهه، وتألمه، وصعوبة تخطيه لكل خطوة، ومع ذلك كان يقاوم، يتحدى الصعاب وهو يقول "يا الله، أعني، تولّني، بارك لي في كل خطوة وعمل وقول"، لكنه كان يفقد توازنه من حين لآخر فيسقط، يتقوى على نفسه وينهض بعد عناء كبير، نظرا لندرة الناس الطيبين الذين يهرعون لنجدته (وكانت هي أولهم رغم حالتها الصعبة)....


للأسف، مر بقرب شاب وشابة كانا يجلسان على نفس هذا المَقْعَد، يتغازلان،يتبادلان البسمات والكلمات والهمسات وغيرها، وكانا يلبسان ملابسا غير محترمة - وفق مخاطبتي، وهي ملابس هذا العصر الخليعة، المهترئة، الممزقة، وغيرها-، تراخت قدماه فجأة فسقط بين الشابين، انفلق جزء من جبينه من جرّاءِ ارتطامه بحديد هذا الكرسي، كاد يغمى عليه وهو يصيح، بكى بحرقة ...


فمَا كان من الشاب إلا أن دفعه بكلتا يديه بقوة إلى الوراء بعد أن جذبه بكل عنف، فسقط الشيخ على ظهره ورأسه، انقطعت أنفاسه، وقد كبرت بركة الدماء التي خلّفها هذا السقوط، فيمَا نهضت الفتاة كالمجنونة، وشرعت في ركل الرجل برجليها في كل مكان وهي تصيح "الشيب والعيب، استح أيها المتصابي، فأنا في عمر حفيدك أو أصغر منه..." ، في حين عربد الشاب وهاج وماج وهو يقول "ما هذا الكبت أيها العجوز، انهض وإلا قتلتك...."


فتجمهر الناس بسرعة، - وكانت مخاطبتي أولهم -، حاولوا إنقاذ الشيخ، اتصلوا بالإسعاف والشرطة، قدم أحدهم الإسعافات الأولية للمصاب - ظنا منه أنه يمكن إنقاذه إن لم يحن موعد رحيله -، ومازال الشابان يسبان، يشتمان، يحاولان النيل من الضحية، يعتديان لفظيًا وجسديًا على كل من يلومهما أو يستنكر ما قاما به من عيب، يصفعان، يركلان، يلكمان، يبصقان....


فلم يسلم من شرهما وبطشهما أحد - وقد صفعت الشابة مخاطبتي مرتين أذاقتها فيهما الويلات والألم الشديد -، ولم يهدآ أو يعودا إلى الجادة حين علما بموت المصاب، بل إن الفتاة قالت وهي تسخر وتستهزئ منه "ارتاحت البشرية منه ومن كبته"، وقال مرافقها "فقدت الإنسانية عنصرًا سلبيًا، شرا وانزاح"....


ولم ينته هذا المشهد إلا حين قدمت الشرطة وسيارة الإسعاف وكل الأطراف المعنية الذين فحصوا الجثة، عاينوا مسرح الجريمة، درسوه، مسحوه مسحا شاملًا، استمعوا إلى شهادات الشهود، رفعوا الأدلة وكل ما يحتاجون لفك طلاسم هذه الجريمة البشعة، حملوا الجثة ونقلوها إلى المشفى أين سيقع تشريحها وتحديد سبب الوفاة الأصلي لاحقا، قبضوا على الجاني وشريكته - وقد تبين أنهما وقتها كانا في حالة سكر واضحة وصلت إلى درجة الثمالة -...


وبعد أن روت لي الحكاية وهي تتألم، تبكي، تمسك وجهها الذي بدت عليه علامات الانتفاخ، تتنهد وتذكر الله، طلبت مني مرافقتها إلى منزلها لأنها لا تقدر على ذلك الآن، فقمت بالمطلوب بكل فخر واعتزاز، أعنتها على النهوض، المشي، صعود درجات منزلها البالي، طرق الباب مرارا وتكرارًا إلى أن فتح لي عجوز الباب، فكاد يغمى عليه - أو ربما يخسر حياته فأكون سببا غير مباشر في ذلك لا قدر الله - لولا أن فسرت له زوجته الحكاية، فأصرا على استضافتي ومشاركتهما الغذاء اعترافًا بالجميل - كما قالا، ولمتهما على ذلك لأني أراه واجبا على كل مواطن عاقل في دولة مسلمة دينها دين تسامح، تآزر، رحمة، عفو، صبر ...... -


لكنني في المقابل، لم أوف بوعدي ولم ألتزم بكلمتي تجاه من كانوا ينتظرونني في المقهى (وقد التمسوا لي العذر بعد سماعهم لما حصل من أحداث متتالية)، لم أشاركهم لذة هذا اللقاء رغم أني أعددت لهم موقفًا مضحكًا أعتقد أنهم سيضحكون كثيرًا حال سماعه مفاده أن مذيعة سألت ذات مرة مواطنًا "ما الشيء الذي ندمت عليه؟" فأجابها أنه "لم يسمع نصيحة جده"، فقالت له متلهفة "وما كانت نصيحته؟" ، فأجابها بكل ثقة في النفس "قلت لك لم أسمعها".


لكني بقيت في الأثناء أتساءل بيني و نفسي بشدة أسئلة جوهرية يجب أن يطرحها كل عاقل في مثل هذه الأحداث الأليمة : متى ستشرق مجددًا شمس هذا المجتمع ويسترجع وازعه الديني، يقوي إيمانه؟ هل ستنهض عاداتنا وتقاليدنا السمحة وتمسح عن أخلاقنا غبار مصاعب و عراقيل هذا العصر؟ ...

عن الكاتب

عواطف رشيد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

مؤسسة العيون الثقافية